في هذه المقالة نتناول معاً نقاشاً تحليلياً للمادة الفنية وعلاقتها مع أنواع الفنون، وكيف تستلهم السينما واحدة من أهم الفلسفات والنظريات من الهندسة المعمارية، وكيف تسهم هذه النظرية في سردنا للقصص وعرضنا للمادة البصرية بشكل مختلف، ما يسهم في تعزيز الفكرة والتأثير على المشاهد، في هذه المقالة، نتعرف معاً إلى نظرية الضغط والإتساع: من العمارة إلى السينما.
العلاقة بين الفنون، فنياً وفلسفياً
تتعدّد الروابط بين الفنون، إذ تجسّد علاقة معقدة تشبه العلاقة الأسرية، تتفاعل مكوناتها المختلفة لتشكّل الفن بأبعاده التحليلية والفلسفية والعاطفية، يمكن تفحص علاقة الفنون المتبادلة من منظورين رئيسيين: التفاعل الداخلي بين الفنون المختلفة، وتأثير الفنون على الجمهور والمجتمع.
نستطيع أن نرصد التفاعل الداخلي وتأثير الفنون بعضها ببعض بوضوح من خلال رصد الكيفية التي تُلهم فيها الموسيقى كل من الرسم والتصوير، وكيف يُلهم الأدب السينما، وكيف يُلهم الرقص المسرح، وكيف تستمد الفنون المتنوعة مواضيعها وأفكارها وحتى تطرّفها في بعض الأحيان بعضها من بعض، ويمكن مشاهدة ذلك بوضوح عند استخدام الفنون المختلفة أدوات وتقنيات مشتركة، على سبيل المثال، استخدام مبادئ التكوين البصري ونظريات الألوان ومفاهيم الإضاءة في الرسم والتصوير، والتأثير الذي تحدثه التغيرات في تلك العوامل في تقديم المادة الفنية المؤثرة للمشاهد.
أما من الناحية الفلسفية، فإن الفنون بأشكالها تعتبر وسيلة للتعبير عن المشاعر ونقلها إلى المتلقي، تثير الفنون المختلفة مجموعة متنوعة من العواطف لدى الجمهور، بدءًا من الحزن والفرح والغضب والحماس وصولًا إلى الخوف وغيرها من العواطف البشرية، وبالتالي، تُعد الفنون بأشكالها وسيلة لنقل المشاعر والتأثير في الجمهور، وهي أداة تُسهم بشكل أساسي في تطوير المجتمع، وتنمية الفكر لديه. هذا ما استعرضه طارق الشريف في دراسته حول دور الفن في تطوير المجتمع، ومثله مثل العديد من الكتب التي ناقشت تأثير الفن والجانب الفلسفي له على المجتمع.
باختصار، يمكن القول أن الفنون تشكل علاقة مترابطة ومتفاعلة بشكل فني وفلسفي وعاطفي، تتأثر بعضها ببعض، وتستوحي الأفكار وتتبنى التقنيات، متكاملة في تشكيل القضايا الفلسفية المشتركة، بهدف تحقيق الغاية المرجوة.
فن الهندسة المعمارية : فلسفة ونظريات
يعتبر فن الهندسة المعمارية أحد أنواع الفنون القائم على التصميم والبناء الإنشائي للمباني والمساحات الفراغية، ومن الناحية الفنية، يتعامل فن العمارة مع العديد من القضايا والمفاهيم، حيث تعتبر فلسفة العمارة نتيجة لفلسفة الفن، وبشكل مختصر، هنالك العديد من النظريات الفلسفية المتعلقة بفن العمارة ومنها :
- النظرية الوظيفية : وهي النظرية التي تركز على الفكرة الأساسية للعمارة بكونها وظيفية تلبي احتياجات الجمهور المستهلك لها، لذا تنص هذه النظرية على أن تكون المباني مصممة بطريقة تعزز الإستخدام الفعلي والعملي.
- نظرية الفضاء والمكان : حيث تركز هذه النظرية على تأثير الفراغ والفضاء في العمارة، حيث تتناول هذه النظرية النسب والتنظيم والتناظر والتوزيع المكاني.
- نظرية التجربة الجمالية : وهي النظرية التي تتعامل مع العمارة والجمالية على أنهما مكون واحد، تسعى هذه النظرية لفهم ومناقشة الآلية الصحيحة لتحويل العمارة إلى فن يثير المشاعر وتخلف التجارب لدى المستخدمين.
للإطلاع أكثر حول نظريات العمارة راجع : نظريات العمارة ومراحل تطورها
نستطيع أن نجد بعض الترابط والإسقاطات بين هذه النظريات وبين صناعة الأفلام كنوع من أنواع الفنون، يمكن أن نجد النظرية الوظيفية في الأعمال المعمارية، تشابه الأعمال الفنية التي لا تحتوي على جمالية بصرية، لا في التصوير ولا في التحرير (المونتاج) إنما تهدف تلك الأعمال الفنية إلى إيصال الفكرة والقصة بشكلها المبسط إلى الجمهور دون تكلف، ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نقول أن أغلب الأعمال الدراما السورية ماقبل 2014 اعتمدت هذه النظرية، حيث كانت تعتمد على النص وأداء الممثلين دون تكلّف فني في التصوير أو المونتاج، وقد تعزى شعبية العديد من الأعمال السورية إلى اعتمادها على هذه النظرية بطريقة أو بأخرى، متجاهلة المعوقات المالية وقلة الموارد.
كذلك نظرية الفضاء والمكان، يمكن أن نجد لها إسقاطات وترابط مع أعمال فنية إعتمدت على تكوين المساحات الزمانية والمكانية في الأفلام، أكان من ناحية بطئ الرتم في الأعمال مثلاً، أم من الناحية الجمالية وطريقة إتخاذ الكوادر وإعتماد الفراغ السلبي في تكوين الكوادر.
فرانك لويد رايت: الضغط والإتساع
يعتبر المعماري الشهير فرانك لويد رايت أحد أشهر المعماريين الرائدين في القرن العشرين، تبنى فرانك لويد رايت مبادئ فلسفية معمارية في أعماله منها نظرية الضغط والإتساع أو ما تعرف بـ Compression and Expansion، وهي نظرية تناقش آلية تصميم الأبنية وفقاً للتباين في المساحات، حيث يدخل الشخص المبنى من البيئة الخارجية الواسعة، نحو مدخل وبهو ضيق ومغلق، فيحقق بذلك عامل الضغط في المبنى، يلي ذلك البهو الكبير والواسع فيحقق بذلك نظرية الإتساع، تهدف هذه النظرية إلى خلق حالة من الفصل بين خارج المبنى وداخله، بحيث يشعر الشخص أنه خرج من عالم ودخل إلى عالم آخر تماماً.
العمارة هي أم الفنون، بدون البناء المعماري، لا يمكن أن تترك حضارتنا أي أثر تاريخي.
فرانك لويد رايت
يمكن أن نرى هذه النظريات قائمة منذ أيام العمارة اليونانية القديمة، كذلك وكوني ابن مدينة دمشق، أستطيع القول أن هذه النظرية تجد لنفسها مقاماً في فن العمارة الدمشقية، حيث يمكن أن نلاحظ إتباع هذه النظرية في البيوت الدمشقية الشهيرة، فحين ندخل من العالم الخارجي عبر باب صغير وممر ضيق لنصل إلى ما يسمى “أرض الديار” فنشعر بإنتقالنا من العالم الخارجي إلى عالم الآخر، كذلك يمكننا القول أن هذه النظرية نجدها قائمة نوعاً ما في سوق الحميدية في دمشق، حيث ندخل السوق المسقوف والمغلق من جهة مفتوحة وواسعة، لنصل في نهايته إلى الإتساع في صحن وبهو الجامع الأموي، فنشعر بشكل لا إرادي، بحالة الفصل بين المكانين وكأنهما عالمين مختلفين.
الضغط والإتساع: من العمارة إلى السينما
لربما وخلال قرائتك عزيزي القارئ لكل ما سبق ذكره أعلاه تسائلت عن العلاقة بين كل ما سبق ذكره ومحتوى المدونة المتخصص في صناعة الأفلام، وما علاقة كل ذلك بآلية عملنا كصناع أفلام وفنانين في مجال السينما والتلفزيون، والإجابة تكمن في مفهوم إسقاط نظرية الضغط والإتساع على السينما، اكان على تسلسل الأحداث في العمل أو مراحل سير السيناريو، أو من ناحية آلية المونتاج وإختيار اللقطات.
يمكن أن نلاحظ إستخدام هذه النظرية عند تحليل مونتاج بعض الأعمال الفنية، أقصد بكلمة مونتاج، ليس فقط تحرير المادة وفنيتها وآلية استخدام الإنتقالات والغرافيك وغيرها من المواد البصرية التي تشكل المادة النهائية، لأن كل ذلك يمكن تسميته بالتحرير، لكن المقصد من المونتاج هنا هو آلية ترتيب تلك اللقطات لتشكيل السيكونس الواحد وفقاً لرؤية فنية لدى المخرج، وما هي تراتبية وحالة آخر لقطة من السيكونس الأول مع السيكونس الذي يليه
تتكون الأفلام من سيكونسات متعددة، والسيكونس الواحد يتكون من عدة مشاهد، وكل مشهد يتكون من عدة لقطات.
في المثال التالي هنا، يوجد لدينا مثال حي على الطريقة الإخراجية المتبعة في هذا الاعلان، والتطبيق الفعلي لنظرية الضغط والإتساع في الآلية الإخراجية وترتيب اللقطات للوصول إلى العمل النهائي :
يبدأ العمل بلقطة هادئة عامة متسعة المساحة والحجم، ننتقل منها إلى سيكونس يضم لقطات وامضة وضيقة ومتسارعة تظهر العنصر المعني في الإعلان، نلاحظ الضغط فيها، في كل من سرعة اللقطات نفسها، طريقة عرضها في عملية المونتاج السريع، وحتى طبيعة المؤثرات الصوتية الموجودة داخل الإعلان والتي تسمح لخلق مزيد من الضغط في السيكونس الموجود.
ينتقل بعدها الإعلان إلى لقطة هادئة بسيطة عامة ومتسعة مرة أخرى، فيظهر فيها العنصر (الدراجة) في لقطة واسعة وهادئة، وحتى بكمية حركة أقل وأكثر هدوء، مع مؤثرات صوتية أهدأ وأقل ضجيجاً، تتسارع رويداً فرويداً سرعة الإعلان مع إنتقالنا للقطة واسعة تضيق تباعاً مع تغير البعد البؤري (الزوم) ومع إضفاء حركة إهتزاز للكاميرا والتي تزداد كلما زاد البعد البؤري للعدسة المستخدمة (زادت كمية الزوم في اللقطة)، ننتقل منها إلى قطع سريع جداً وضيق جداً، وهنا حدد المخرج ذروة التصاعدية في السيكونس الأول، لينتقل بعدها إلى لقطة هادئة مرة أخرى بحركة كاميرا هادئة بطيئة وبمؤثرات صوتية أقل حدة.
التناوب الواضح في كل تلك العوامل بين ضغط واتساع، في كل من حجم اللقطة، مكان عرضها، وكم المؤثرات الصوتية، تخلق لدينا التباين في العمل، ما يسهم في خلق تأثير أكبر على المشاهد.
هذا النمط الإخراجي هو واحد من تطبيقات نظرية الضغط والإتساع وأكثرها إستخداماً في عالم صناعة الأفلام، حيث لا يتم فقط إستخدامه في تحديد حجم اللقطات، بل حتى في حالة القصة وطبيعة الموسيقى التصويرية، وغيرها من الادوات التي تسمح لنا بتشكيل تباين في آلية إستخدامها في عملنا.
الآن وبعد إطلاعنا على نظرية الضغط والإتساع ورؤيتنا لنماذج تطبيقاتها العملية في السينما وتعزيز ذات التأثير النفسي الذي يتجلى في العمارة والتصميم المعماري، ندرك الآن قدرتنا على تطبيقها وإعتمادها أيضاً ضمن أعمالنا الفنية بشكل يمكننا من تحقيق تناغم أعمق وتباين أكبر في السردية الفنية، ما يتيح لنا خلق مادة فنية تتفاعل بشكل أفضل مع الجمهور، وتنقل المشاعر بسلاسة وقوة أكبر.
في الختام، أود تذكيركم أنه بإمكانكم إرسال إستفساراتكم من خلال الضغط على تواصل معنا، كما بإمكانكم متابعتنا عبر حسابنا في إنستاغرام للمزيد من المحتوى الحصري.
دمتم مبدعين.
هل أعجبتك المقالة ؟ شاركها مع أصدقائك ..