هل لاحظت يوماً ما عدم قدرتك على تمييز الألوان بالعين المجردة في ظروف الإضاءة المنخفضة؟ وهل تساءلت لماذا تميل عيوننا إلى تمييز اللون الأزرق في الأجواء العتمة، في حين أن كاميرتنا قادرة على رؤية كامل طيف الألوان دون مشاكل؟ في مقالة اليوم نتحدث عن تأثير بوركنجي، وكيف يتمكن مدراء الإضاءة والتصوير من الوصول إلى لقطات تمثل ضوء القمر الحقيقي من خلال فهمهم لآلية عمل العين البشرية.

تأثير بوركنجي – Purkinje Effect: العين البشرية
في عام 1819، إكتشف العالم التشيكي جان إيفانجليستا بوركينجي تأثير يحصل للعين البشرية ويؤثر على طريقة رؤيتها للضوء والألوان، ففي ظروف الإضاءة المنخفضة، تصبح العين البشرية غير قادرة على رؤية الألوان الحمراء والبرتقالية والصفراء، في حين تستطيع العين رؤية كل من اللون الأخضر والأزرق، يعود ذلك إلى وجود مجموعتين من الخلايا الحساسة للضوء في العين، فالخلايا المخروطية تعمل حين نكون في بيئة منارة بشكل كافي، في حين أنه وفي البيئة منخفضة الإضاءة (كمثال البيئة المضاءة فقط من ضوء القمر) تتوقف الخلايا المخروطية عن العمل في العين، وتبدأ الخلايا العصوية بالعمل، فنستطيع الرؤية في الظلام لكن على حساب التشبع اللوني لأطياف لونية معينة، وهو ما يصعب علينا القدرة على التمييز بين الألوان ليلاً.
تأثير بوركنجي هو ميل حساسية الإضاءة القصوى للعين البشرية إلى التحول نحو الطرف الأزرق من الطيف اللوني عند مستويات الإضاءة المنخفضة.
تأثير بوركنجي – Purkinje Effect: التصوير والسينما
لطالما كان هنالك ذاك التساؤل حول كيفية إعادة خلق التأثير الواقعي للعين البشرية في المشاهد السينمائية، وتوظيف ذلك التأثير في خلق لقطات تشعر المشاهد بحقيقة وواقعية المشاهد، لتسهم في اندماجه في القصة وتفاصيلها، أحدى تلك المسائل الجدلية كانت حول آلية تشكيل المشاهد الليلية في الأفلام، كيف يمكن لنا تصويرها بالشكل الصحيح؟ هل يحصل ذلك من خلال الإضاءة؟ أم الكاميرات؟ ام مرحلة مابعد الإنتاج؟ أم في كل المراحل المذكورة؟

في بداية عصر السينما، وحين كان التصوير يقتصر على بكرة الفيلم باللونين الأبيض والأسود، كان تمثيل المشاهد اليليلة بصرياً يقتصر على إنارة المشهد بإضاءة حادة موجهة تشكل ظلالاً حادة لمحاكاة ضوء القمر أو الإضاءة، فطبيعة بكرات الأفلام البيضاء والسوداء كانت تسهم بشكل كبير في تسهيل عمل مدير التصوير من ناحية خلق المشاهد الليلية.


يقول السينمائي John Alton في كتابه Painting with Light ص60 ونقتبس:
عند إضاءة المشاهد لمحاكاة ضوء القمر، نستخدم عادةً مصدر ضوء واحد قوي، ينتج عنه إضاءة حادة وظلال داكنة واضحة. ولكي تكون الإضاءة واقعية، يجب أن تأتي من اتجاه واحد، تمامًا كما يفعل ضوء القمر في الطبيعة
مع تطور السينما وتقنيات التصوير، وظهور بكرات الأفلام الملونة، وهو ما طرح مفهوم اللون في السينما، إستمر السينمائيون بالعمل بهذه المقولة وأوجدوا طريقة للتصوير بالإعتماد على الشمس كمصدر ضوء واحد وقوي، حيث يتم التصوير بتعريض منخفض بإغلاق فتحة العدسة والتصوير في ساعات شروق او غروب الشمس للوصول إلى مشاهد تحاكي بشكل تقريبي المشاهد الليلية، ولتظهر إضاءة الشمس على انها ضوء القمر كما في فيلم Lawrence of Arabia من عام 1962 للسينمائي Freddie Young :




ومع التطور المستمر للتقنيات في التصوير والإضاءة، لازلنا نرى ذات التقنية تستخدم بشكل متكرر، حيث يوجد ضوء واحد ساطع وقوي وحاد، يشكل ظلال حادة، ومن إتجاه واحد ليحاكي لنا ضوء القمر، لاحظوا أن الحديث هنا يعتمد على إعتماد نسب إضاءة متباينة بشكل عالي جداً.
راجع مقالة نسب الإضاءة والتعريض



وعند تحليل ودراسة المشاهد، نرى أن ضوء القمر “كما هو في الحقيقة” يُمَثل بضوء أبيض صافي، لا لون أزرق ولا أخضر فيه، فالقمر عملياً يعمل عمل السطح العاكس، فيعكس ضوء الشمس باتجاه الأرض، مع إختلاف بسيط جداً في درجة حرارة الضوء (مايعادل 300 – 400 كيلفن عن ضوء الشمس 5600 تقريباً)، في حين نرى أن الظلال التي تتشكل قد تحمل أحياناً تمثيلاً لونياً يشابه التمثيل اللوني الناتج عن تأثير بوركنجي الذي ذكرناه في الأعلى، فتحمل الظلال أطياف من اللون الأخضر أو الأزرق، لكن ضوء القمر بطبيعته ضوء أبيض صافي غير ملون.
لذا وتطبيقاً للقاعدة المتبعة في محاكاة ضوء القمر، يعمد مدراء التصوير إلى تشكيل مصدر ضوء كبيرة مكون من عدة اضاءات تُرفع على رافعة في إرتفاعات عالية لتضيء مساحات اكبر ولتحاكي ضوء القمر، فيتكون لدينا العامل الأول وهو الضوء الحاد والقوي من إتجاه واحد


في بعض الأحيان، لا يكون هنالك حاجة للضوء الحاد او لوجود تمثيل حقيقي لضوء القمر، بل يكتفي مدير التصوير بتمثيل ضوء القمر بتكوين مايحاكي الإضاءة المحيطية ambient light التي يشكلها القمر، فيتم الإستعاضة عن الضوء القوي والحاد، بضوء واسع وكبير وناعم، ليرفع قيم الإضاءة في الظلام، ويشكل هالة ضوئية ذو إتجاه واحد

نرى في الصورة مايعرف ب moon box مرفوع أعلى المساحة المراد إضاءتها
حيث يُشكل ما يعرف ب Moon Box من قضبان ألمنيوم على شكل مكعب يسمح بتثبيت الإضاءة داخله حسب الحاجة ثم يضاف له من مشتتات الإضاءة، ليشكل لنا مايشبه السوفت بوكس كبير الحجم، فيضيء لنا المساحة وكأننا نتعامل مع تصوير عنصر صغير على طاولة صغيرة أمامنا
و عند ضبطنا لتوازن اللون الأبيض في الكاميرا على 5600 كلفن، وتحديد درجة حرارة لون إضاءة القمر الصناعي، سواء كانت إضاءة حادة مرفوعة على كرين أو إضاءة ناعمة كما تحدثنا أعلاه على 6000 كلفن، نحصل على ضوء محايد يميل قليلاً نحو الأزرق، مما يساهم في خلق بيئة ليلية واقعية تحمل طابعاً درامياً متماسكاً، وهنا يصبح من الضروري ضبط إضاءات الـبراكتيكال Practical ضمن الكادر على 4600 كلفن، وذلك لضمان التباين اللوني الطبيعي بين الضوء الصناعي الدافئ والإضاءة القمرية الباردة، مما يحافظ على التوازن البصري داخل المشهد دون الإخلال بالواقعية أو النمط الجمالي المراد تحقيقه.
مازال بعض السينمائيين يلجأون لتصوير المشاهد الليلية في النهار والتلاعب بالمادة الفنية في مرحلة مابعد الإنتاج لتحويلها إلى مشاهد ليلية، كمثال إعادة إستخدام هذا التكنيك في مسلسل House of the Dragon، حيث لجأ فريق التحرير إلى تخفيف الإضاءة والتشبع اللوني لمحاكاة تأثير بوركينجي وهو ما تسبب في صعوبة لدى كثير من المشاهدين في مشاهدة المشهد الذي إستمر حوالي 12 دقيقة مستمرة


يقول السينمائي ديفد مولان ونقتبس :
المشكلة الأساسية في الأفلام هي أننا عادةً نحتاج أن نرى ما الذي يحدث وكيف يكون أداء الممثلين. بالإضافة إلى ذلك، فإن المشهد المعتم جداً قد يكون صالحاً للمشاهدة على شاشة كبيرة في غرفة مظلمة جداً وفي بيئة مناسبة، ولكن عند عرض ذات المشهد على شاشة صغيرة في غرفة بها بعض الإضاءة، قد يبدو مظلماً أكثر من اللازم ويصبح من الصعب التركيز على الأحداث. لذلك، يصبح هنا الأمر قراراً إبداعياً دائماً، ورأي شخصياً ونمطاً خاصاً حول مدى شدة الظلمة المناسبة للمشهد.

وجد سينمائيون أمثال Jarin Blaschke ضالتهم في تحقيق نمط بصري واقعي يحاكي ضوء القمر في فيلم The Northman، حيث نرى تطبيق تأثير بوركنجي واضح في المادة المرئية للفيلم، إذ يمكننا رؤية الصورة بوضوح لكن دون أي إشباع لوني للألوان في الطيف الأحمر والأصفر، وتميل الصورة في المناطق التي عادة ما تكون مشبعة بهذه الألوان “كالبشرة” إلى اللون الرمادي.




كما إستخدام ذات التقنية في فيلم The Witch حيث نرى ذات التشبع اللوني للألوان الزرقاء والخضراء، في حين أن الألوان الاحمر والأصفر غير مشبعة إلا في حال وجود مبرر كمصباح أو نار مثلاً




ماقام به السينمائي بلاشكي هو إستخدام فلتر Scotopic يقوم على إضعاف الموجات الضوئية الصفراء والحمراء، ويسمح بمرور الموجات الخضراء والزرقاء بشكل كامل، ما سمح له بالوصول إلى التأثير الذي نراه في الفيلم.
يمكننا محاكاة ذات التأثير الذي نراه في الصور أعلاه، والذي سنسميه تأثير بوركنجي بناء على التأثير العلمي الذي يحصل في عيننا البشرية، من خلال أداة في Davinci resolve تسمى ColorSlice، تتيح لنا التحكم بالقنوات اللونية كل على حدى، حينها يمكننا تخفيف التشبع اللوني – Saturation من القنوات الصفراء، والحمراء، والتحكم بمدى سطوع القناة اللونية بما يتناسب مع البنية الضوئية والبصرية للمشهد

كما يمكننا من خلال تقنية الـSplit Toning، والتي تعتمد على توزيع الألوان بناءً على قيم الإضاءة في الصورة، إضافة درجات لونية دافئة إلى المناطق الساطعة، وأخرى باردة إلى مناطق الظلال، وتُنفذ هذه التقنية غالباً من خلال التحكم بمنحنيات الألوان (Curves)، ما يمنح الكالريست – Colorist قدرة أكبر على صياغة الهوية البصرية النهائية للمشهد بشكل دقيق ومدروس.

في الختام، أود تذكيركم أنه بإمكانكم إرسال إستفساراتكم من خلال الضغط على تواصل معنا، كما بإمكانكم متابعتنا عبر حسابنا في إنستاغرام للمزيد من المحتوى الحصري.
دمتم مبدعين.
هل أعجبتك المقالة ؟ شاركها مع أصدقائك ..