في هذه المقالة نتحدث واياكم بشكل مفصل ، عن الفلسفة الفنية في أعمال السينمائي روجر ديكنز – Roger Deakins، ونظرته الفلسفية نحو التصوير السينمائي وأسلوب السرد البصري للقصص.
مقدمة وتوضيح
بداية أود التنويه إلى أن هذه المقالة هي محاولة لتحليل وإستنتاج لفلسفة بعض أعمال السينمائي روجر ديكنز – Roger Deakins، وتحصيل بعض المعلومات منها، هذه المقالة هي مجهود شخصي، لذا دع ذلك في الحسبان عند القراءة، وشاركنا آرائك في التعليقات أدناه في حال وددت الإضافة أو النقاش عن إحدى النقاط.
من هو روجر ديكنز – Roger Deakins؟
في عالم صناعة الأفلام، يعمل صانعوا الأفلام كفريق واحد كُلّ في تخصصه وقطاعه للوصول إلى المادة الفنية النهائية بالشكل المطلوب، مدير التصوير هو المسؤول بالشكل الأساسي عن قطاع الكاميرا، وهو المسؤول عن تحديد طبيعة اللقطات وحركات الكاميرا وآلية الإضاءة وما الذي سيظهر في اللقطة من سواه، وكيف ستبدو الخلفية، وما طبيعة الألوان في الصورة.
إذا أردنا الحديث عن شخص أحترف كل ما سبق ذكره، وقدم أعمال سينمائية أسطورية، وترشح على إثرها 15 مرة متتالية لجائزة الأوسكار لأفضل تصوير سينمائي، فحديثنا هنا عن السينمائي روجر ديكنز – Roger Deakins.
لكن ما الذي يقوم السينمائي روجر ديكنز – Roger Deakins بفعله للوصول إلى كل ما وصل إليه حتى الآن؟ وكيف يستخدم التكنولوجيا المعاصرة في عالم صناعة الأفلام للوصول إلى رواية بصرية متقنة الصنع بهذا الشكل؟
يقول روجر وأقتبس :
“الموضوع من وجهة نظري لايتعلق بتكوين صورة جميلة أو تحصيل تكوين فريد، بالنسبة لي الهدف هو القيام بتجسيد العمل بالطريقة الصحيحة في المرتبة الأولى.”
وفقاً لهذا الإقتباس، تتغير قواعد التحليل بين العمل والآخر وفقاً للنص والقصة التي تُروى في الفيلم، لذا فستختلف آلية تحليل
عند الحديث عن تحليل مادة سينمائية ما بالشكل الصحيح، فإنه يجب علينا التركيز على النقاط الأساسية الثلاث في التصوير السينمائي :
- Staging – أسلوب العرض (إن صحت الترجمة)
- Camera Movements – حركة الكاميرا
- Lighting – الإضاءة
إنطلاقاً من ثلاث – روجر ديكنز وفلسفته الفنية
Staging – أسلوب العرض
ترمز كلمة Staging إلى الأشياء التي تظهر في المشهد بالشكل العام، أماكن تموضعها، وآلية حركتها، وزواياها، وطبيعة اللقطة بالشكل العام، فزاوية اللقطة أكانت علوية أم منخفضة تظهر إختلافاً في قوة الشخصية وحالتها أثناء رواية القصة.
كذلك الموضوع أثناء الحديث عن الإختلاف بين اللقطات بقياس الوايد ولقطات التيلي فوتو (بإستخدام عدسات ببعد بؤري كبير) مثلاً، هنالك فرق كبير، وكل لقطة من الممكن أن توحي وتسرد القصة بشكل مختلف تماماً.
راجع مقالة : قياسات اللقطات السينمائية
لتحليل أكثر عن أسلوب عرض المشهد – Staging، نشارككم مشهد مميز من أعمال السينمائي روجر ديكنز من فيلم Sicario، في المشهد أدناه الذي سنقوم بتحليله تتحدث القصة عن مجموعة من القوات الأمريكية الخاصة تحاول عبور الحدود من المكسيك نحو الولايات المتحدة الأمريكية، في أثناء عبورها ضمن الإزدحام المروري، يتم رصد مجوعات من العصابات المكسيكية حولهم، ويظهر لنا المشهد كيف تقوم المجموعة بالتعامل مع الخطر المحيط حولها :
في بداية المشهد المتوتر، نلاحظ أن اللقطات الأولى تبني لنا حالة التوتر، فمن اللحظة الأولى التي يرفع فيها Matt السلاح، تتغير حالة المشهد إلى حالة التوتر، لربما نرى ذلك في إنطباع الممثلة وهي تحاول تفادي مقدمة السلاح في المكان الضيق، لكن ومع ذلك، للإيحاء بالتوتر الحاصل وتغير الحالة التي تعيشها الشخصيات، تم كسر قاعدة الـ 180 درجة.
ولكي نعلم أين هو مصدر التهديد الذي سبب لنا وللمشهد كل هذا التوتر، ننتقل إلى لقطة لمصدر التهديد، نلاحظ أن اللقطة لم تصور من مكان قريب للعنصر المراد إظهاره، ولم تصور بعدسة واسعة/وايد، بل تم تصويرها بإستخدام عدسة تيلي فوتو-زووم، لتشكل ما يعرف بالديرتي فريم والذي يقصد به، ظهور العناصر في مقدمة المشهد بشكل غير واضح في أطراف اللقطة، وجود هذه العناصر، تساعدنا على معرفة أن ما نشاهده الآن في هذه اللقطة، هي تماماً ما تنظر إليه الشخصية التي تحمل السلاح، لتشكل اللقطة لدينا لقطة تعرف بإسم POV.
سريعاً بعد حالة مميزة ومشوقة من بناء الحماس والتوتر، تتحرك القوة الأمريكية في المشهد، لتتعامل مع الهدف، وهنا قرر مدير الإضاءة والتصوير، أن يتم تغطية هذه الحركة من الأعلى بواسطة مروحية، فيما يسمى Bird’s-Eye View، حيث تتحرك الكاميرا بداية من إظهار الإزدحام المروري، لتتجه بشكل مائل Dutch Angle/Tilt، تغطية الحدث من الأعلى ساهم ببناء حالة التوتر، ذلك لما أتاح لنا برؤية العدد الكبير من المجندين يتوجهون نحو الهدف، وسرعة إنتشارهم، ناهيكم عن زاوية الكاميرا المائلة التي توحي بالحالة الغير مستقرة والقلقة في المشهد.
لاحقاً ننتقل من الحدث الأساسي إلى حدث ثانوي، وهو وجهة نظر العميلة التي بقيت في السيارة، هنا نلاحظ المزيد من حركة الكاميرا في المشهد، تتحرك الكاميرا لتمّثل حركة عين الممثلة، لتنتهي على المرآة الجانبية لتلاحظ شخصاً مسلحاً على وشك إطلاق النار نحوها، في هذه اللقطات أصبحت الكاميرا وحركتها هي ما يمثل حالة الممثلة وما تراه، أصبحنا نعيش حالة الممثلة النفسية بداية من رؤية الإنتشار الأمني حول السيارات في الطريق وإنتهاءً بإكتشاف المسلح خلف السيارة، بهذه الطريقة، تم عرض ورواية المزيد من القصة، من خلال محاكاة وجهة نظر الممثلة عن طريق حركة الكاميرا.
نلاحظ في هذا المشهد، أن كل قرار تم إتخاذه من قبل مدير التصوير، تم بناء على ما تتطلبه القصة، وليس ما تتطلبه الجمالية الفنية، لذا فرواية القصة بصرياً بالشكل الصحيح أهم بكثير من خلق الجماليات التي ليس لها أي مبرر في القصة.
يسعى الكثير منّا إلى خلق صور ولقطات جميلة، دون التفكير في سبب إنشائنا لها، وهنا تكمن فلسفة ومفهوم الحاجة لتأقلم التصوير مع القصة، لا العكس، حيث يجب على التصوير السينمائي أن يتكيف ويسهم في رواية القصة، وليس خلق مادة إستعراضية لقدرات مدير التصوير وفريق الإنتاج، فالقصة هي المبرر لكل شيء أولاً وآخراً.
يقول السينمائي روجر ديكينز : على التصوير السينمائي ألا يبرز من تلقاء نفسه في الفيلم، وإذا كان كذلك، فقد فشلت في عملك كمصور سينمائي، يجب أن يكون الحُكم على “التصوير السينمائي الجيد” مبني أكثر على مدى استخدم المصور السينمائي أدواته وكوادره وتكويناته والإضاءة التي بين يديه لتقديم القصة وجعلها رائعة.
لربما تمثل هذه المقولة واحدة من أهم الفلسفات الفنية للسينمائي روجر ديكنز، فعند تحليلنا لإي عمل من أعماله، لا نرى تكلفاً وتعقيداً في محاولة لخلق صورة جميلة، بل نشهد رواية للقصة بشكل يجعلنا ننغمس ونعيش في تفاصيل القصة دون التشتت عنها بجمالية الإضاءة وحركات الكاميرا وغيرها.
Camera Movements – حركة الكاميرا
حركة الكاميرا – Camera Movements من الممكن أن توحي بالكثير أثناء سرد القصة، كما أنها تضيف الكثير من البُعد في المشهد وتزيد اهتمام المشاهد وتركيزه مع الحدث، لكن حركة الكاميرا لا تتم لمجرد الحاجة لتحريك الكاميرا فقط!، بل يجب أن يتم ذلك بعناية ولغاية معلومة، كتتبع لحركة الممثل مثلاً، أو لكشف المزيد من المعلومات في المشهد.
حركة الكاميرا المنطقية وتموضع الممثلين وحركتهم وطبيعة أسلوب العرض – Staging هي أدوات تساعد على رواية القصة بصرياً بشكل طبيعي، وذلك ما يضيف طبقة من طبقات البناء السينمائي للوصول إلى مشهد متماسك.
في الآونة الأخيرة ومع إنتشار إستخدام مثبتات الحركة camera gimbals، أصبحنا نرى إستخدام مكثف لمثبتات الحركة، وأصبح إستخدامها أكثر ما يكون كترند، حيث تناسى الكثيرون نقطة مهمة، هو أنه إذا كان من الممكن إستخدام مثبت الحركة وكان متوفراً في متناول الأيدي، لايعني بالضرورة الحاجة لإستخدامه، الحاجة لحركة كاميرا لا تأتي لمجرد قدرتنا على تحريك الكاميرا، بل تأتي بالشكل الأول والأخير وفقاً لما تُمليه علينا القصة، لا العكس، لا يمكن أن نُملي على القصة نمط إضاءة أو حركة كاميرا معينة، بل إن القصة هي ما تملي علينا آلية العمل الصحيحة.
Lighting – الإضاءة
الإضاءة ليست فقط مادة لمساعدتنا على رؤية الأشياء داخل المشهد، فهذا عملها الطبيعي والمتوقع من كلمة ضوء، لكن استخدام الإضاءة بالشكل الذي يسمح لنا بتحديد نمط معين للفيلم، أو للمادة البصرية هو هدف وعمل السينمائي الأهم وهو ما يجب التركيز عليه أثناء الحديث عن الإضاءة.
تكلمنا بشكل موسع جداً في العديد من المقالات تحت تصنيف: سينماتوغرافي عن العديد من طرق وآليات وأشكال من الإضاءة.
يقول روجر ديكنز وأقتبس في حديثه عن الإضاءة وأنماطها :
“يمكن لأي شخص يتعامل مع كاميرات السينما أن يقوم بالتصوير السينمائي، الموضوع سهل لو أردنا فهمه بهذه الطريقة، لكن الموضوع يحتاج الكثير من التخطيط والتحضير، والكثير من التركيز أيضاً.”
و يضيف :
“بالطبع يمكن إستخدام أساليب الإضاءة والتكنولوجيا الحديثة بأشكال فنية مختلفة، كحركة الكاميرا مثلاً أو أشكال وألوان مختلفة للإضاءة، بالطبع نستطيع ذلك، لكن كيف سيخدم ذلك رواية القصة في الفيلم؟، هل ستكون مناسبة للفيلم؟، أم أنها ستكون أكثر من المطلوب؟، يجب على السينمائي والمخرج العمل معاً للإجابة عن هذه الأسئلة.”
مقتبس من بودكاست Team Deakins بإمكانكم الإستماع إلى كامل الحلقة من هنا :
من أهم ما يميز السينمائي روجر ديكنز – Roger Deakins أنه لا يمتلك نموذجاً فعلياً في طريقة الإضاءة وتحريك الكاميرا وأسلوب العرض – Staging، بل يعتمد بالشكل الأساسي على تلبية رغبة ورؤية المخرج الفنية بما يقتضيه المشروع من خلال قواعد بسيطة نوعا ما في التصوير، وما يجعل من عمله مميزاً حقاً هو أنه وفي كل عمل يقوم به مازال يشعرنا ويفاجئنا وكأنها المرة الأولى التي نشاهد فيها عملاً له بهذه البراعة.
نلاحظ في جميع أعمال السينمائي روجر ديكنز أنه الإضاءة في المشهد دائماً مُبررة أكان من ناحية الجهة أو الشدة أو اللون أو حتى درجة النعومة، لا نجد إضاءة تضيء وجه الممثل فقط لحاجة إضاءة وجه الممثل، بل يكون هنالك سبب لوجودها من هذه الزاوية وبهذا اللون، ولهذا نشعر أن الإضاءة التي في المشهد هي إضاءة طبيعية قادمة من نافذة أو من مصباح مكتبي.
أهم ما يميز أعمال السينمائي روجر ديكنز :
- نمط التصوير السينمائي لدى روجر ديكنز يٌحفذ ويتكيف بشدة مع القصة.
- يستخدم الكاميرا والإضاءة بطريقة غاية في البساطة، دون أن تؤثر على فاعلية وأسلوب رواية القصة.
- يخلق ضمن أعماله حالة من الواقعية في الإضاءة.
- الإضاءة المستخدمة في أعماله دائماً تكون إضاءة مُبررة من ناحية الجهة والمصدر واللون والشدة.
أرجوا أن تكون هذه المقالة وافية بما فيه الكفاية، أود تذكيركم أنه في حال وجدتم أي إستفسار، بإمكانكم إرسال إستفساراتكم من خلال الضغط على تواصل معنا، كما بإمكانكم متابعتنا عبر حسابنا في إنستاغرام للمزيد من المحتوى الحصري.
دمتم مبدعين.
هل أعجبتك المقالة ؟ شاركها مع أصدقائك ..
